كتب أنطوان مراد في نداء الوطن:
ينتفض قيادي روحي مسيحي ابتعد عن موقعه الكنسي الرسمي منذ فترة، ليصارح محدثيه طويلًا بما اعتمل لديه من مواقف وأفكار حرص طويلًا على كبتها وضبطها وبات متحررًا أكثر في البوح بها من دون أي عقدة، بعدما تبيّن له أن الصراحة والمصارحة هما الباب أمام الكثير من المعالجات، بدلًا من الاستمرار في التكاذب والتذاكي.
ويقول ردًا على محاوريه في جلسة بعيدة من الأضواء، إن أخطر الطروحات هي تلك التي تعتبر أن المسيحيين في تناقص عددي مستمر لأسباب بديهية، وليس من حقهم التمسك بالمناصفة إلى ما لا نهاية، وأن الديمقراطية الحقيقية تقتضي التسليم بالأكثرية والأقلية، لا سيما عندما يقارب عدد المسيحيين الثلث من اللبنانيين ويُرجَّح أن يبلغ الربع بعد نحو عقد من السنين.
وقال: “لن أتحدث عن الميثاقية المسيحية الإسلامية وعن الشراكة والمناصفة والتوازن، وعن تخطي الأعداد والأرقام، لأن التراجع الديموغرافي المسيحي لم يكن في الأصل تراجعًا طبيعيًا، بل نجم عن أسباب ودوافع قسرية ومتعمدة في الكثير من الأحيان، منذ عقود عدة.
فالاندفاع الفلسطيني الذي بدأ ديموغرافيا تحت عنوان اللجوء، وتحوّل تدريجًا إلى أمني وعسكري مع ما شكّله من تهديد ومحاذير للكثير من المناطق المسيحية حتى قبل اندلاع حرب الـ 1975، شكل ناقوس خطر وأدى إلى نقزة تصاعدت مفاعيلها تدريجًا في مناطق على غرار الدكوانة والمكلس وسن الفيل والكرنتينا وجسر الباشا وسواها ولدى شرائح مسيحية توجست من الانفلاش المسلح المتفاقم، لا سيما في ظل صدامات متفرقة ودموية عدة، فكم بالحري عندما أُجبِر الجيش اللبناني في العام 1973 على التراجع عن محاولة حسم المواجهة مع الفدائيين الفلسطينيين.
وقد تجلت المخاوف على أرض الواقع مع انفجار الحرب في نيسان 1975، وما تخللها تدريجًا من تهجير واسع وفرز سكاني ومجازر مريعة ومروعة كما في الدامور والعيشية ودير عشاش وسواها، الأمر الذي أطلق حركة هجرة مسيحية كبيرة إلى الخارج وجعل الكثير من الشباب المسيحي الباقي في لبنان ينصرف إلى الدفاع الذاتي وخوض تجربة الحرب، بدلًا من الانصراف إلى بناء مستقبل وعائلات.
وجاء الاحتلال السوري ليفاقم التنكيل بالمسيحيين من خلال ما تعرضوا له من حروب متتالية وأخصها حرب المئة يوم، فضلًا عن الحصار الطويل الذي تعرضت له المناطق الشرقية سنوات طويلة، مع استمرار المنافذ البحرية مفتوحة بنسبة أو بأخرى.
وقد جاءت حربا التحرير والإلغاء لتفاقما المشكلة، لا سيما عندما يُعرف جانب مهم من أسبابها الحقيقية والذي يكمن في تحريض العماد ميشال عون على مواجهة عشوائية للاحتلال السوري الذي حاصر المناطق الحرة وتعاطى معها بوحشية كبيرة، وصولًا إلى حرب الإلغاء بعدما أُوحي للعماد عون بأنه يمكنه أن يحسم الموقف في وجه “القوات اللبنانية”، وتم دعمه من المناطق التي تسيطر عليها سوريا آنذاك بالذخائر والتموين، وسط تفرّج اللبنانيين الآخرين على المأساة المسيحية.
ولم يكن زمن السلم الأهلي بأفضل، لأنه كان سلمًا خادعًا، وساهم في بروز الظاهرة الشهيرة التي عرفت بالإحباط المسيحي، مع نفي القادة المسيحيين الفعليين أو اعتقالهم أو ملاحقتهم والتهويل عليهم، والتضييق على أحزابهم، ما دفع بأعداد ضخمة من الشباب إلى الهجرة أو إلى الاستنكاف عن بناء حياة اجتماعية سوية نتيجة الهواجس المختلفة.
واستمر الخلل في زمن الوصاية الإيرانية غير المباشرة ممثلة بـ “حزب الله” وسلاحه، والتي أخضعت المسيحيين لهامش يراوح بين الابتزاز والتهديد الدائم، مع قضم حضورهم في الدولة وفي القرار السياسي، وتنامي الاعتقاد لدى معظم المسيحيين بأن لبنان لم يعد لبنان الذي يريدونه والذي يوفر لهم الأمان والاطمئنان إلى الغد”.
هذه العوامل المتراكمة والمتفاقمة على مر السنين أثبتت في خط بياني، كما يقول القيادي الروحي، أن ثمة ما يشبه خطًا تصاعديًا عنوانه إضعاف المسيحيين و”تهشيلهم” من الوطن الذي كانوا في أصل ولادته.
ويخلص إلى القول: “وكأنه لا يكفي المسيحيين فظائع المجاعة والحصار التي تعرضوا لها في الحرب العالمية الأولى، والتي أفرغت جبل لبنان من ثلثي أهله، معطوفة على مذابح العام 1860 بتحريض من العثمانيين، لنصل إلى الواقع الراهن، لا سيما وأن مرسوم التجنيس المشؤوم في العام 1994 فاقم بنسبة كبيرة الخلل الديموغرافي، وكرس أمرًا واقعًا يخالف جملة مسلمات وطنية وميثاقية وقانونية وأخلاقية”.
ومن هنا، تبدي أوساط كنسية رفيعة المقام خشية جدية على الوجود المسيحي حضورًا ودورًا، وقد باتت تتقبل ما تسمع ويتردد أمامها من طروحات حول اللامركزية الموسعة وإعادة النظر في التركيبة الحالية بما يحمي التنوع من هيمنة فئات على فئات أخرى، علمًا أن أصحاب تلك الطروحات يحرصون على شرح الوقائع والآفاق بشكل موضوعي. بل إن مسؤولين روحيين في مناطق الأطراف ينصتون بعناية ملحوظة لما يُطرح من صيغ تحافظ على مسيحيي الأطراف من ضمن الدولة الواحدة، على غرار استمرارهم في انتشارهم الجغرافي الراهن مع ربطهم انتخابيًا وبشكل جزئي إداريًا بمناطق أخرى من دون التأثير على التفاعل والتعاون مع محيطهم، ولكن بما يحفظ لهم خصوصية معينة وحضورًا يتجاوز مخاطر الذوبان والتهميش ويلتقي مع المعنى الحقيقي للشراكة الميثاقية الفعلية.